الحسن بن الهيثم العالم مؤسس علم البصريات
أحد علماء العرب الثلاثة في أوائل القرن الـ11 الميلادي. ولد في البصرة ومات بالقاهرة، عرفته أوروبا باسم “الهَازِن”، وأعلت من قيمة بحوثه العلمية وأشادت بنظرياته ومناهجه. خلد كتابه “المناظر” اسمه عبر القرون، وظل المرجع المعتمد في الغرب حتى القرن الـ17، أطلق العلماء عليه ألقابا منها “أمير النور” و”أبو الفيزياء الحديثة” ومؤسس علم البصريات، و”رائد المنهج العلمي التجريبي”.
المولد والنشأة
وُلد أبو عليّ الحسن بنُ الحسن بنُ الهَيْثَم، سنة 354هـ/965م على أرجح الأقوال، في مدينة البصرة جنوب العراق، في عهد الخلافة العباسية.
لم تكن حياته مستقرة، إذ فرّ من البصرة بعد ملاحقة أميرها له، وتوجه إلى بغداد، وعاش بها بضعة أشهر آمنا.
في خضم التصادم بين الفرق الدينية المذهبية في تلك الفترة، رحل إلى الشام وأقام في كَنَف أمير من أمرائها، كما ذكر ظهير الدين البيهقي، ابن فندمه، (ت: 565هـ) في كتابه “تتمة صوان الحكمة”.
بعد ذلك انتقل أوائل القرن الـ11 إلى مصر في عهد الدولة الفاطمية، واستقر بها إلى آخر عمره، حسب ما ذكر ابن أبي أصيبعة، أحد مؤرخي تراجم العلماء.
قيل في وصفه إنه كان قصير القامة ضئيل الجسم، ونَال وجهه من شمس البصرة سُمرة داكنة، وقضى حياته أشبه بـ”درويش متصوف”، إذ يرى الباحثون أنه عاش في شظف العيش، مترفعا عن التكسب بالعلم.
ذكرته المصادر باسم “البَصريّ” و”شيخ البصرة” نسبة إلى مسقط رأسه، أو “المِصريّ” نسبة إلى بلد إقامته، وعرفه علماء أوروبا بـ”الهَازِن” ترجمة لاسمه العربي الحسن، ولقّبوه “بطليموس الثاني”، و”فيزيائي القرون الوسطى”.
التكوين العلمي
لا يُعرف مَرجع يحيط بسنوات نشأته العلمية الأولى، لكنها تَزامنت مع وقت وصف بـ”العصر الذهبي” للعلم في الحضارة العربية الإسلامية.
تَهيّأت له أسباب تحصيل العلوم والإلمام بمختلف نواحي النشاط الثقافي، حتى وإن لم تكن في ذلك الوقت مدرسة نظامية. عاصر مجموعة من كبار العلماء في مرحلة أَعقَبت حركة الترجمة لأصول العلوم الإغريقية، التي شكّلت في كثير من الأحوال مصدرا للعلم وعلمائه القدماء، ومنطلق حركة الإبداع الفكري.
كان في مرحلة شبابه، شديد الملاحظة مُتلهّفا للعلم، واسع الاطلاع، نَهل من مختلف العلوم المتوفرة في عصره، كما كان خبيرا بعلم الطب، لكنه لم يباشره عملا، ولم يتدرب على فنونه.
أغنى معارفه في الشام، وهي يومئذ أكثر اهتماما بالعلم والعلماء، ووجد في مكتباتها سبيلا لكتب وافرة في جميع ألوان العلوم والمعرفة.
وفي مصر الفاطمية، كان يجلس إلى علمائها ويقرأ في مكتباتها، ويحضر مناظراتها العلمية في “دار العلم” التي أنشأها آنذاك الحاكم بأمر الله، كي تنافس “بيت الحكمة” الذي كان مركزا لبحوث الترجمة في بغداد.
طالع كتابات العلماء السابقين خاصة علماء اليونان، وكرّس حياته لدراسة علومهم. وتعمق في استكشاف الكتب الفلسفية، خاصة أعمال أرسطو. وقال في ذلك “فلما تَبيّنت ذلك، أفرغت وسعي في طلب علوم الفلسفة، وهي ثلاثة علوم: رياضية وطبيعية وإلهية، فتعلقت من هذه الأمور الثلاثة بالأصول والمبادئ، التي مَلَكتُ بها فروعها”.
الحياة المهنية
عمل الحسن بن الهيثم في مستهل حياته العملية كاتب حسابات في ديوان الزّمام (الحسابات) بإمارة البصرة، وكان ماهرا وحاذقا في عمله، تُطاوعه لغة الأرقام والمسائل الحسابية. كما امتلك معرفة واسعة في هندسة البناء، واشتغل بوضع تصميمات لبيوت أهل البصرة.
في الشّام، أخذ يكسب رزقه من أجر نسخ الكتب المترجمة للورّاقين، لما عُرِف به من حُسن الخَطّ ودقّة نظامه.
حين لم يستطع في مصر، تنفيذ فكرته الهندسية لمنع فيضان النيل السنوي، وَلّاه الحاكم بأمر الله الفاطمي، مهنة كاتب حسابات بديوان الرواتب. لكنه اضطر -على ما تقول بعض الروايات- أن يظهر خبالا في عقله، فَادّعَى الجنون حتى يجد لنفسه مخرجا من عمله، رغم الامتيازات التي كان يحملها منصبه.
وُضع قيد الإقامة الجبرية 10 سنوات، وجدها فرصة جيدة ليشغل نفسه بالتحصيل العلمي، إلى أن مات الحاكم، فعاد إلى ما كان عليه، وأقام بدار قرب الجامع الأزهر، مشتغلا بالتصنيف والتعليم.
امتهن نَسْخ المخطوطات القديمة، وما تزال إحداها وهي (تأويل بنو موسى لكتاب أبولونيوس “المخاريط”) موجودة في أحد متاحف إسطنبول.
عالم موسوعي
لم يجد ابن الهَيْثَم -على ما ذكره المؤرخون- لذّة إلا في التفرغ للبحث والتأليف، واستجابة لهذا الشغف كان غزير الإنتاج، وتفوق في أكثر من حقل معرفي، ما جعله من أوائل العلماء الموسوعيين في زمنه.
من المرجح -حسب الدارسين-، أن يكون في المرحلة الأولى من حياته، قد اهتم بالشرح والتلخيص والتحصيل، واعتنى بمؤلفات ذات طابع علمي، متأثرا ببيئة ثقافية طغى فيها صراع المدارس الفكرية والكلامية، نسبة إلى الكلام في مسائل أصول الدين، وكثرة النقاش بشأن الفلسفة وبعض العلوم الأخرى.
أما في المرحلة الثانية، فكتب القسم الأكبر من مصنفاته في مصر. خلال السنوات العشر الأخيرة من حياته، ظهر كتاب (المناظر)، أكمل أهم أعماله العلمية قيمة في علم الضوء، لذلك، خلص المؤرخون إلى أن كتابات ابن الهَيْثَم الشاب المُتّبِع، ليست هي ذاتها كتابات ابن الهَيْثَم العَالِم والفيلسوف.
يميل الدكتور عبد الحميد صبرة، محقق كتاب المناظر، إلى اعتماد فهرس سماه “قائمة النضج”، وهو يحتوي على 92 مصنفا، وجدها ابن أبي أصيبعة لابن الهيثم، إلى آخر سنة 429هـ/ 1038م، وأوردها في كتابه “أخبار العلماء بأخبار الحكماء”. وتتوزع العناوين المدرجة في هذه القائمة، بين 88 مقالة في الأخلاق، و89 مقالة في آداب الكتاب، و90 كتابا في السياسة من 5 مقالات.
ونسب له، كتاب “السير من العرب” وله حوالي 100 عمل مَفقود، منها حوالي 55 عملا، كلها تُعنى حصرا بالرياضيات والفلك والبصريات، حسب الدكتور دونالد هيل، مؤلف كتاب “العلوم والهندسة في الحضارة الاسلامية”.
بينما يرى سعيد الدمرداش في كتاب “الحسن بن الهيثم“، أن تصانيفه في الحدود المعروفة، توزع على أكثر من حقل معرفي، كان حظُّ المكتبات الغربية منها أكثر من حظ المكتبات العربية، وهي كالتالي:
- في الهندسة ألف 58 تصنيفا، لكن لا يوجد في مكتبات العالم منها أكثر من 21 مخطوطا.
- وفي الحساب والجبر والمقابلة ما لا يقل عن 10 كتب، لا يوجد منها سوى نحو 3 كتب، منها كتاب “في حساب المعاملات”، توجد منه صورة فوتوغرافية بمعهد المخطوطات لجامعة الدول العربية.
- في حين ناهز ما ألفه في الطبيعة 24 تصنيفا بين كتاب ورسالة ومقالة، تناول فيها موضوعات الضوء ومسائله، لكن لم يُحفظ منها إلا 12 مصنفا توجد في أكثر من مكان.
- أما في الفلك فألف أكثر من 5 تصانيف، غير أن تراثه في هذا العلم بقي منه نحو 17 مقالة و24 تأليفا فقط.
- وألف في الطب كتابين لا يعرف لهما مكان في فهارس المخطوطات، الأول في “تقويم الصناعة الطبية” بلغت أجزاؤه نحو الثلاثين ذكر أسماءها ابن أبي أصيبعة نقلا عن مقالة ابن الهيثم نفسه، والثاني مقالة في “الرد على أبي الفرج عبد الله بن الطيب”.
- هناك ما يناهز 40 كتابا في الفلسفة والمنطق وعلم النفس والأخلاق وفي الإلهيات واللغة.
رائد المنهج التجريبي
رسخ ابن الهيثم الطريقة العلمية أو المنهجية للبحث العلمي منذ القرن الـ11، والتي تعتبر في نظر الباحثين أكثر أهمية من مكتشفات “عالم البصريات” وآرائه الجديدة.
شكل نموذجه طفرة في عصره، إذ بدأ مشروعه العلمي بالشك في نظريات القدماء مثل مقالته في “الشكوك على إقليدس”، وكذلك نقد النظريات القائمة مثل فكرة “الأرض هي مركز الكون” لبطليموس، ثم انتهى إلى تأسيس العلم في كتابه “المناظر”.
اتّسمت كتاباته عموما، بالمنهج القائم على النقد والمقارنة والتحليل، ثم الاستقراء والقياس، والاعتماد على المشاهدة، حتى عرف بأنه رائد المنهج التجريبي، الذي يعد من دعائم العلوم الحديثة.
أجرى أهم بحوثه في علم البصريات، واعتُبر مؤلَّفه “المناظر” المكون من 7 مقالات قفزة نوعية في الفيزياء النظرية.
كان وراء الجمع بين العلوم الطبيعية والعلوم التعليمية، وأثبت بطلان الفكرة التي كانت سائدة بأن العين هي مصدر الضوء، وأكد أنها مُستقبل الضوء، وعُدّ ذلك أحد الاكتشافات الثورية في العصور الوسطى.
كما توصل إلى أن الضوء يسير دائما بخط مستقيم، وحين يعبر ثقبا صغيرا، يشكل صورة مقلوبة على الجدار المقابل، وكان أول من قال إن الثقب كلما كان أصغر تبدو الصورة أوضح.
كما وضع نظرية جديدة للإبصار، واستخدمت المعلومات التي كونها في صنع أول كاميرا في التاريخ، وهي “الكاميرا الثقبية” أو “الحجرة المظلمة” التي فسر لأول مرة استخدامها في ملاحظة كسوف الشمس.
اكتشف في علم الضوء، 9 قوانين لما يسمى بـ”زوايا الانعطاف”، واستعمل الهندسة المستوية والمجسمة في تعيين نقطة الانعكاس التي شغلت عقول علماء أوروبا، وعرفت بمسألة “الهازن” وكانت تدرس في جامعات أوروبا.
أفاد منه عالم الفلك الألماني يوهانس كبلر في علم البصريات، وسبق “فيتيلو” البولندي في وضع أساس هذا العلم، مثلما سبق إسحاق نيوتن في القول بسرعة الضوء الذي ظهر بعده بـ700 عام، واقترب من الاكتشاف النظري للعدسات المكبرة التي صنعت في إيطاليا بعد ذلك بـ3 قرون، وفق “مييرهوف”.
تنسب إليه أول محاولة لدراسة فيزيائية فلكية تفصيلية للأثر الظاهر في ضوء القمر، في رسالة “الأثر الظاهر في وجه القمر”، وهي نسخة خطية تقع في 9 أوراق (كل ورقة بها صفحتان) تحتفظ بها بلدية الإسكندرية.
كما تناول بحوثا تجريبية، في موضوعات محددة، منها الكرة الحارقة أو المرايا الحارقة بكل أشكالها، أو تكوين الظلال، وكتب عن الهالة، وقوس قزح.
وكان للمصطلحات والتصاميم التي ابتكرها الفضل في صنع الوسائل البصرية الحديثة، مثل التلسكوب والكاميرا الرقمية والعدسات المكبرة، وحتى النظارات الطبية.
وكان أيضا، أول من شرح تركيب العين، وبيّن أجزاءها وسماها بالأسماء المتداولة اليوم، ومنها الشبكية والقرنية والسائل المائي والسائل الزجاجي.
مؤلفاته
- المناظر.
- المختصر في علم هندسة إقليدس.
- مقالة في تربيع الدائرة.
- فصل في أصول المساحة وذكرها بالبراهين.
- في صورة الكسوف.
- في تقويم الصناعة الطبية.
- في منافع الأعضاء.
- في أصناف الحميات.
- في النبض الكبير.
- المهذب في الكحالة (أي في طب العيون).
- المختار في الأغذية.
- في السياسة.
- في إثبات النبوءات وإيضاح فساد رأي الذين يعتقدون بطلانها.
- في الفرق بين النبي والمتنبي.
عمدة المؤلفات
يعتبر “المناظر” من أهم الكتب التي ظهرت خلال القرن الـ11 الميلادي، وهو المصنف الذي خلد ذكر ابن الهيثم، ألّفه بين عامي 1011 و1021، أثناء إقامته في مصر، ورتبه في 7 مقالات.
في القرن الـ13، كتب “روجر بيكون” تعليقا على “المناظر” سماه “الرؤى”، وفي القرن الـ14، كتب كمال الدين الفارسي نسخة منقحة للكتاب سماها “كتاب تنقيح المناظر”.
وقد ترجم كتاب (المناظر) إلى اللاتينية والعبرية والإسبانية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية، مرات كثيرة.
في عام 979هـ/ 1572م، ترجمه “فردريك رسنر” ترجمة كاملة إلى اللاتينية ونشره في سويسرا بعنوان “كنز البصريات”، وزوّد الطبعة برسم يوضح فيه مختلف أجزاء العين.
وترجمه الإيطالي “جيراردي كيرمونا” إلى اللاتينية، لكن لم يطبع منه سوى مقالة واحدة في لشبونة، ولا تزال مكتبة الفاتيكان تحتفظ بنسخة من هذه الترجمة.
كما توجد في مكتبة آيا صوفيا بإسطنبول نسخة كاملة من الكتاب برقم (2448)، تتألف من حوالي 678 ورقة.
وحقق (المناظر) مصطفى نظيف بك، وعلق عليه في جزأين عامي 1939- 1942، كما حققه الدكتور عبد الحميد صبرة، ونشره بالكويت عام 1983م.
الوفاة
توفي ابن الهيثم في القاهرة، في حدود عام 430هـ/ 1039م، كما يقول القفطي، عن عمر ناهز 76 عاما على الأرجح، وليس معروفا مكان رفاته.
المصدر : الجزيرة + مواقع إلكترونية
ليست هناك تعليقات: